اللحون خطاب الروح، والمساس بها جنسٌ من تزوير هذا الخطاب المتوارث عبر الأجيال، المستعار من روح الأسلاف، في زمنٍ سبق استواء الطين حجراً، واستقامة الفطرة في واقع سلوك، فلم يخطيء أهل إسبارطة عندما سنّوا التشريع الذي يحرّم تغيير الأنساق في الألحان، وَعْيَاً منهم بأن عملاً كهذا كفيلٌ بتزييف الأصالة في وجدان إنسانٍ.

الموسيقى في حياته كانت قدس أقداسٍ، لأنها ليست ترفاً يلبّي نداء الشهوة إلى الطرب، كما نعتمدها اليوم، ولكنّها أناشيد ابتهالٍ موجّهة للمعبود. ولذا فالعبث بها هو محوٌ للهويّة. محوٌ لهويّة الأمّة في بُعدها البكر، المستحضر من الزمن الذائع المسكون بوجدان الأسلاف. أي أنه استهدافٌ شرّير للسجيّة الروحيّة، ناجم عن اغتراب الأصالة، يتضاءل في حضرته التجديف في حقّ الهوية الحرفيّة.

ونحن لا نستطيع أن نتخيّل ماذا يمكن أن يعني الإغتراب عن الهوية الروحيّة، ما لم نستجر بتلابيب الرؤيا النبويّة التي لم تتردّد في أن تنصّب الطبيعة الروحيّة قريناً للهوية الربوبية.

فما معنى غياب الهوية الربوبية فينا؟

غياب الهوية الربوبية فينا يعني انعدام أنفاس الروح الألوهية في طينتنا الحرفيّة. وأن تنعدم فينا أنفاس الروح الألوهيّة يعني إباحة إنكار حجّة وجودنا، والقبول بالتّجديف في حقّ رأس المقدّسات، ممّا سيُبيح تلقائيّاً إقتراف الآثام، بما في ذلك إرتكاب جريمة قتل!

يحدث كل هذا في حال الإستهانة بالموسقي، وتدنيس ترسيمة قدسية كاللحون بنغمة الجرثومة الدنيوية، ممّا سيزعزع الترنيمة الإلهيّة بنشازٍ مترجمٍ في حرف الحسّ؛ لأن الخصام في فلسفة الموسيقى قائم مبدئياً بين جناب الحسّ من جانب، وبين حضرة الحدَس من جانب آخر، وما شحنة الحنين ،أو ذخيرة الشجون، التي تسكن الوتر الموسيقي، سوى حضور الله في الجملة اللحنيّة. أي أن الموسيقى هي الخطاب الوحيد الذي يرطن بلغة تليق بمُخاطَبٍ هو ألوهة، بدليل نبوآت عرّافات معبد دلفى اللائي لا يتنزّل الوحي في ألسنتهنّ إلاّ في صيغة أبياتٍ شعرية، مشفوعةٍ بغناءٍ ملحون. وعندما نستشهد بخطاب عرّافات معبد دلفى، فإننا نستشهد بسيرة النبوّة في مَهدها الطفولي، أي في تلك المرحلة المبكّرة من تاريخ الجنس البشري، عندما كانت الأمومة تتبوّأ عرش النظام الوجودي، فتأخذ المرأة على عاتقها وزر الإلهام، والقيام بكل ما من شأنه أن يضمن تسهيل ولادة الوحي النبوي من رحم الغيوب. وقدّاس الآحاد في الكنائس المسيحيّة لم يولد إلاّ تيمّناً بمحافل التراتيل في معابد الأمم السالفة، لا طلباً لفرحٍ، كما نتوهّم بعقلية اليوم، ولكن تلبيةً لنداء الحنين إلى الحضور في حرم الألوهة، لأن في رحابه تهيمن السكينة، وتهنأ الروح الظمآى بالطمأنينة. وهو احتفاءٌ لا يقتصر في تلاواته على التعبير عن السعادة بميلاد النبوّة، ولكنه ممارسة تحترفها الأوساط الإجتماعية ابتهاجاً بطقسٍ ذي هوية دينيّة أيضاً كحال الأعراس، لأن قران الرجل بامرأة هو مشروعٌ رساليٌّ يبشّر بميلاد جنينٍ هو، في العُرف، قياس كل الأشياء، بوصفه حرفاً جديداً في أبجديّة وجود القوم، ولذا فهو أيضاً نبوّة جديرة بالمراسم الإستسراريّة ذاتها المعتمدة في حقّ ميلاد النبوّة.

كما نلاحظ هيمنة النزعة الغنائية المجبولة بروح الإنشاد الديني، في الأتراح أيضاً، حيث تصدح الأصوات في جدران المعابد، مردّدةً أناشيد شجونٍ أيضاً، لتشييع جنازات الأموات، الذين التحقوا بقافلة الأبديّة بما يليق بمقامهم من ابتهالات. فالموت والحياة، في عُرف أممٍ مسكونة بالتقوى البدئية، هما وجهان لعملة واحدة، ولا فرق بينهما في استحقاق ما يليق من مراسمٍ هي نوعٌ من سَداد دَيْن.

وهي النزعة التي أحسنت استثمارها عبقريّة في الإخراج السينمائي مثل "فرانسيس كوبولا"، لتغدو في عمله بمثابة شعرة شمشون، حيث طقس الوفاة يعادل، في مراسم الإحتفاء، طقس الميلاد. فكلّ محفل عرس، يمهّد لإنتاج مخلوق، يعادله، في المقابل، مشهد لمصرع مخلوق بطعنة سكّين، ليشتري الميلاد في حرف العرس، هلاكاً بحرف جريمة قتل، كضربٍ من تعويض يحفظ توازن المعادلة الوجودية على الكوكب.

وكل أعمال هذا الحكيم تعبيرٌ بليغ عن جدل الحياة والموت. والمدهش هو الطقس الإحتفالي الذي تمارَس فيه هذه الحبكة التراجيدية، حيث يتماهى مشهد المِيتة المغسولة بنزيف الدمّ، مع مشهد الولادة، المترجمة في حرف العرس، المشفوعة بسلسبيل الدمع، المسفوح تعبيراً عن فرح. وهو وعيٌ كوسموبوليتي عميق بحقيقة هذه الثنائية الغيبيّة.

والمثير للفضول هو الكيفية التي تُحبَك فيها فصول المهزلة: فالطّقس يتحوّل حدوداً، يتحوّل حرمةً، يتحوّل كياناً يتباهى بحياديّته. والإنشاد في المحفل يلعب دور روح الطقس، ولذا فهو خطاب. خطابٌ يرطن بلسان الآلهة، ويجود بالوصايا بنَفَس الألوهة. وصايا لا تلبث أن تستعير سلطة حاسمةَ بدعمٍ من سلطان الغناء، لتستقيم الهبة في الأحجية، في نبوّة مركّبة، ولكن تركيب البُنية لا ينال من الغنيمة التي لا تلبث أن تُعتمد في يقين القوم ناموساً بفضل الروح الملحمية في الأغنية، فتكتسب اللحون لهذا السبب حصانة دينية تستنزل في أنساقها التحريم. والمساس بها، أو محاولة الإخلال بالنغمة ليس مجرد إثم، ولكنه تجديفٌ في حقّ الآلهة، لأنها منذ الآن بصمة قدسية، وليست مجرد نغمة. هي، منذ الآن، هوية الأمّة الروحية.

فاللحون، بهذا، لا تعود مجرّد ترجمان لروح الهوية، ولكنها تغدو الوصيّ على روح الهوية: الوصيّ المخوّل بضمان شفافية حضور الروح في حرف الهويّة.

ملاحظة:

 عندما قرّر سقراط، بطل رواية أفلاطون، أن يعثر على البصمة الفارقة في روح الإنسان اليوناني، لتغدو حجّة الوجدان الإنساني، لم يهرع إلى ميراث إمام الحكماء السبعة صولون، ولم يستنجد بنبوآت سلفه أمبيدوقليس، ولكنه استجار بالمصدر الوحيد المتبقّي من ذخيرة النظام الأمومي، وهو إمامة الحكمة الإلهيّة، سادنة معبد "مونتينايا": ديوتيما، ليستعير من علمها الوصيّة عن الحبّ الإلهيّ، الذي ورثناه في أسطورة الحبّ العذري.

عرّابة الحبّ الأسطوري ديوتيما وحدها استطاعت أن تلقّن فيلسوف الأجيال درس البصمة: درسٌ أنبل عاطفةً في تاريخ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان: الحبّ!

فهل بالوسع إعتماد ترياق لمداواة جراح الروح، الظامئة للإرتواء من ينابيع الهوية الإلهيّة، باستثناء الحبّ؟

ألم نتعلّم منذ الأزل أن اللحن هو الترجمان الوحيد، المعبَّر عن أعجوبة كالحبّ؟ أوَ لم يكن المخلوق الوحيد، المؤهّل وجدانياً لتنكّب هذا الصليب عبر الأجيال، ليغدو تعويذة في لسان الحورية السماوية، المتنكّرة في مسوح سادنة معبد الربّة "أثينا"، التي لم تكن سوى إحدى تجلّيات ربّة التكوين الليبيّة "تانّيت"، كما يعترف أبو التاريخ هيرودوت؟

فكيف لا يستوي التقليد المجيد الذي استعان بالرقم السحري التاسع في حساب الأعداد، لينصّب بموجبه دهاة الأوائل المرأة في عرش الإنشاد الإلهيّ، لأنها وحدها الأحجية المسكونة بمعجزة نسمّيها جمالاً، المجلّلة بنبضٍ إستقام في الأشعار، مغسولاً بلهفة الوجد الشجني، الموسومة برؤى الإلهام السماوي، لتنال وحدها شرف الوصاية على الخطاب الموجّه للألوهة، مترجماً في محفل التاسوع، الملفّق من ربّات صنوف الفنون، لسببٍ بسيط هو عدم وجود كمالٍ، في وجودٍ قياسه الأعداد، خارج اتّساع التاسوع، لأنه ختام مطاف الأعداد، وكمال استواء التكوين، وكل ما تلى من أعداد ما هو في الحقيقة سوى تكرار لما استوى في الدائرة، انطلاقاً من الجذر المترجم في حرف الصفر؟

فالإنتصار للمرأة في تولّي شأن اللحون الوجدانيّة، المخوّلة بالتغنّي بأمجاد الربوبية، في محفل التاسوع اليوناني، هو أيضاً ناموسٌ ليبيّ الهويّة، إستعاره اليونانيون من أسلافهم الليبيين، كما استعاروا منهم كل وصاياهم الدينية والدنيوية، بدايةً بالعربات المجرورة بأربعة جياد، مروراً بعادات اليونانيات، ونهايةً بالمعتقدات الدينية، والطقوس الإستسرارية، وتفويض الكاهنات بتولّي أمر استنزال النبوآت، كما يرد حرفياً في وصايا أبي التاريخ هيرودوت، وهو ما لم يكن لينال اعترافنا في عالم اليوم، لو لم نجد البرهان حيّاً في أعراف أحفاد قدماء الليبيين، طوارق الصحراء الكبرى، حيث مازال الناموس الأمومي سائداً إلى اليوم. ومن الطبيعي في واقع يحظى بهيمنة الأنثى على كل ما متّ بصلة لجناب الروح، أن يستنزل الناموس أشدّ أجناس التحريم في حقّ التلاعب بأنساق اللحون، إذا كانت هذه العرّابة الخالدة هي المفوّضة بتولّي رعاية وديعة جسيمة كالحبّ بوصفها الوصيّة الطبيعيّة على مصير الأمّة، الذي يتزلزل في حال المساس بهوية الأمّة، التي تسكن روح اللحون، واستمرار بقاء السلالة قيد الوجود، إنّما هو رهين نقاء النغمة الألوهية في أوتار المعزوفة الموسيقية، على النحو نفسه، الذي اعتمدها الإسبارطيّون في عقيدتهم، فكسبوا بفضلها الرهان، الذي خسرته أمم أخرى، استهانت بحقيقة الإيحاء المبثوث في شرايين الأنغام، فانتهكت بكارة اللحون، تلبيةً لنداء التوق للتجديد.